السؤال
قرأتُ في كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الموسوم بـ الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح، هذه الجملة: «وأيضًا، فهم يذكرون في الأمانة أنَّ المسيح تجسَّد من مريم ومن روح القدس، وهذا يوافق ما أخبر الله به من أنَّه أرسل روحه، الذي هو جبريل، وهو روح القدس، فنفخ في مريم فحملت بالمسيح، فكان المسيح متجسِّدًا مخلوقًا من أمِّه ومن ذلك الروح. وهذا الروح ليس صفةً لله، لا حياتَه ولا غيرَها، بل روحُ القدس قد جاء ذكرُها كثيرًا في كلام الأنبياء، ويُراد بها إمَّا الملك، وإمَّا ما يجعلُه الله في قلوب أنبيائه وأوليائه من الهدى والتأييد ونحو ذلك».
فما المقصود بالعبارة التي قالها الشيخ رحمه الله: «متجسِّدًا مخلوقًا» هنا؟ لأنني أعلم أن النصارى يردِّدون كثيرًا كلمة التجسُّد، ويقصدون بها كفر الحلول والاتحاد، وهي كلمة كفرية.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمقصود من قول شيخ الإسلام ابن تيمية: فكان المسيح متجسدًا مخلوقًا من أمه، ومن ذلك الروح. أن عيسى -عليه السلام- خُلق وتكوّن جسده من مريم العذراء، وبنفخة جبريل -عليه السلام-، فهو مخلوق مكوَّن من بشر وروح أرسلها الله، وليس أنه حلّت فيه صفة إلهية، أو أن فيه اتحادًا أو حلولًا؛ كما يعتقد النصارى، فقد صرّح بأن هذا الروح (روح القدس) ليس صفة لله، ولا حياته، ولا غيرها، بل هو مخلوق كسائر الملائكة، وهكذا فسرها شيخ الإسلام في أكثر من موضع من كتابه، فقال: وهو -سبحانه- خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن فكان، لَما نفخ فيه من روحه، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه، وقال له: كن فكان، ولم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتًا وناسوتًا، بل كله ناسوت، وكذلك المسيح كله ناسوت. اهـ.
وقال في موضع آخر: قالوا: وقوله على لسان داود النبي صلى الله عليه وسلم: "روحك القدس لا تنزع مني"
فيقال: هذا دليل على أن روح القدس كانت في داود، فعلم بذلك أن روح القدس التي كانت في المسيح من هذا الجنس، فعلم بذلك أن روح القدس لا تختص بالمسيح، وهم يسلمون ذلك، فإن ما في الكتب التي بأيديهم في غير موضع أن روح القدس حلّت في غير المسيح في داود، وفي الحواريين، وفي غيرهم، وحينئذ فإن كان روح القدس هو حياة الله، ومن حلت فيه يكون لاهوتًا، لزم أن يكون إلهًا، ولزم أن يكون كل هؤلاء فيهم لاهوت وناسوت كالمسيح، وهذا خلاف إجماع المسلمين والنصارى واليهود. اهـ.
وأصل عبارة التجسد عند النصارى تعني أن الإله صار جسدًا، واتحد بطبيعة بشرية، وصار هو الإله المتأنس، وهذا كفر عظيم.
أما معنى كلام ابن تيمية فهو أن عيسى مخلوق كغيره من البشر، ولكنه تميّز بأنه وُلد من أم بلا أب، وبنفخة من روح القدس جبريل، ولم يقصد الحلول أو الاتحاد، أو أن فيه جزءًا من الألوهية، كما يزعم النصارى، بل هذا مما أنكره شيخ الإسلام، وردّ عليهم فيه، كما بينا.
والله أعلم.