[ ص: 391 ] قالوا : وقال : حبقوق النبي : ( إن الله في الأرض يتراءى ، ويختلط مع الناس ، ويمشي معهم ) .
وقال أرميا النبي : ( الله بعد هذا في الأرض يظهر ، وينقلب مع البشر ، فيقول أنا الله رب الأرباب ) .
والجواب : أن هذا يحتاج إلى تثبيت نبوة هذين ، وإلى ثبوت النقل عنهما ، وثبوت الترجمة الصحيحة المطابقة ، وبعد هذا يكون حكم هذا الكلام حكم نظائره ، ففي التوراة ما هو من هذا الجنس ، ولم يدل ذلك باتفاق المسلمين ، واليهود ، والنصارى - على أن الله حل في موسى ، ولا في غيره من أنبياء بني إسرائيل ، بل قوله : يتراءى هو - بمنزلة يتجلى ويظهر ، وقد ذكر في التوراة أنه تجلى ، وتراءى لإبراهيم وغيره من الأنبياء [ ص: 392 ] عليهم السلام من غير أن تكون ذاته حلت بأحد منهم ، وما في القلوب من المثال العلمي وبمعرفته ومحبته وذكره - يطلق عليه ما يطلق على المعروف بنفسه ؛ لعلم الناس أن المراد به المثال العلمي .
وما في القلوب من معرفة المعروف ومحبته ليس المراد به نفس المعروف المحبوب ، فإذا قال القائل : أنت والله في قلبي ، أو في سويداء قلبي ، أو قال له : والله ما زلت في قلبي ، وما زلت في عيني ، ونحو ذلك - علم جميع الناس أنه لم يرد ذاته ، فإذا رأوا من يذكر عالما مشهورا أو شيخا مشهورا ، فيذكر علمه ، وعمله ، ويحيي ذلك بين الناس - قالوا : قد صار فلان ، يعني المعروف المذكور ، عندنا وبين أظهرنا لعلم المخاطبين بالمراد .
ويقول أحدهم لمن مات والده : أنا والدك ؛ أي قائم مقامه ، ويقولون للولد القائم مقام أبيه : من خلف مثلك ما مات ، وإذا رأوا عكرمة مولى ابن عباس الذي معه علمه يقولون : جاء ابن عباس ، وابن عباس بين الناس ؛ لأن مولاه نائب عنه ، وقائم مقامه ، وإذا بعث الملك نائبا قائما مقامه يقولون جاء الملك الفلاني ، لأن هذا النائب قائم مقامه مظهر لأمره ، ونهيه ، وأحواله .
وفي الحديث الصحيح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله : عبدي مرضت فلم تعدني ، فيقول العبد : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ، فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا مرض [ ص: 393 ] فلم تعده ، أما لو عدته لوجدتني عنده ، عبدي جعت فلم تطعمني ، فيقول : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ ، فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا جاع ، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي ، عبدي ، عطشت فلم تسقني ، فيقول : رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي استسقاك فلم تسقه ، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي .
فجعل جوع عبده جوعه ، ومرضه مرضه ، لأن العبد موافق لله فيما يحبه ويرضاه ، ويأمر به ، وينهى عنه ، وقد عرف أن الرب نفسه لا يجوع ، ولا يمرض .
ومعلوم أن وصفه بالجوع والمرض أبعد من وصفه بالمشي بين الناس ، والاختلاط بهم ، ولهذا نظائر كثيرة موجودة في كلام الأنبياء ، وغير الأنبياء من الخاصة ، والعامة ، ولا يفهم عاقل من ذلك أن ذات المذكور اتحدت بالآخر أو حلت فيه إلا من هو جاهل كالنصارى .
والناس يرون الشمس ، والقمر ، والكواكب ، وغير ذلك في الماء الصافي ، وفي المرآة المجلوة ، ونحو ذلك .
ويقول أحدهم : رأيت وجه فلان في هذه المرآة ، ورأيت الشمس والقمر في المرآة أو في الماء ، مع علم كل عاقل أن نفس [ ص: 394 ] الشمس والقمر وغيرهما لم تحلا لا في المرآة ولا في الماء ، ولكن هذه رؤية مقيدة رآها بواسطة المثال الذي تمثل في المرآة أو الماء ، سواء كان ذلك شعاعا منعكسا أو غير ذلك ، ومن هذا الباب قول القائل :
إذا ظهر الغدير على صفاء ، وجنب أن يحركه النسيم ترى فيه السماء ، بلا امتراء كذاك الشمس تبدو والنجوم كذاك قلوب أرباب التجلي يرى في صفوها الله العظيم فقد أخبر أن الله يرى في قلوب العارفين ، كما ترى الشمس والنجوم في الماء الصافي ، بل يتصور أحدهم صورة من يعرفه بحمرة أو خضرة أو سواد ، فيقول : والله هذا هو فلان بعينه ، مع علمه وعلم كل من سمعه أنه مثاله المطابق لصورته لا عينه ، وذلك لمماثلة تلك الصورة لصورته ، يريد أن هذا تمثيل مطابق له لا مخالف .
ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من رآني في المنام فقد رآني حقا ، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي " لم يرد أنه رأى جسدي الذي في القبر ، وروحي التي في الجنة - حالة في ذاته ، فإن هذا ممتنع لوجوه كثيرة ، فلهذا قال : " فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي " .
[ ص: 395 ] ولما دخل جماعة من الصحابة على المقوقس ملك النصارى بمصر ، واستخبرهم عن دينهم فأخبروه بذلك ، فإذا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة ، وإذا فيها أبواب صغار ففتح منها بابا فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فيها صورة بيضاء ، فإذا رجل طوال أكثر الناس شعرا ، فقال : أتعرفون هذا ؟ قالوا : قلنا لا ، فقال : هذا آدم .
ثم أعاد ، وفتح بابا آخر ، فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء ، فإذا رجل ضخم الرأس عظيم له شعر كشعر النبط أحمر العين ، فقال : أتعرفون هذا ؟ فقلنا : لا ، فقال : هذا نوح .
ثم أعاد ، وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء ، فإذا رجل أبيض الرأس واللحية ، كأنه يبتسم فقال أتعرفون هذا ؟ فقلنا : لا . فقال : هذا إبراهيم .
ثم أعاد ، وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء ، قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 396 ] قال : هذا والله محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله .
قال : والله يعلم أنه قام ثم قعد ثم قال : الله بدينكم إنه نبيكم ؟ قلنا : الله بديننا إنه نبينا كأنما ننظر إليه
ثم قال : أما إنه كان آخر الأبواب ، ولكني عجلته لكم لأنظر ما عندكم .
ثم أعاد ، وفتح بابا بابا ، وهو يقول : هذا موسى ، هذا هارون ، هذا داود ، هذا سليمان ، هذا عيسى .
وهذا كله لظهور المراد به ، ومعرفة الناس بمقصود المتكلم ، كما يقال لمن كتب اسمه في كتاب : هذا فلان
ومعلوم أن الموجود في الكتاب اسمه المكتوب لا ذاته الموجودة في الخارج ، ومن هذا الباب قوله تعالى :
وكل شيء فعلوه في الزبر .
وإنما في الزبر ذكر أعمالهم ، وكتابة ذلك ، ويقال في كتابة الوثائق : هذا ما أصدق فلان ، وهذا ما يقاضي عليه فلان وفلان ، ويقال : هذا ذكر ما أصدق فلان أو يقاضي عليه فلان وفلان ، فيشار إلى الموجود تارة ، وإلى ذكره تارة .
[ ص: 397 ] ومعلوم أن الموجود في الكتاب ذكره لا عينه ، بل ذلك وجود الخط في الأذهان المطابق لذكره باللفظ .
والشيء له وجود في الأعيان ، ووجود في الأذهان ، ووجود في اللسان ، ووجود في البنان ، ووجود عيني ، وعلمي ، ورسمي ، ولفظي ، وفي كل من الأربعة يذكر ، ويشار إليه مع القرائن والضمائر التي تبين تارة أن المشار إليه هو الخط المطابق للفظ ، وتارة تكون الإشارة إلى اللفظ المطابق للمعنى .
ومعلوم أن المعنى الذي في القلب أقرب إلى الموجود في الخارج من اللفظ والخط ، فإذا أشير إلى ما في قلب العارف بعين المحب له الذاكر له ، بأنه المعروف المحبوب ، كان أقرب لا سيما ، وقد يغلب الذكر والمعرفة والمحبة على القلب حتى يغيب بموجوده عن وجوده ، وبمعروفه عن معرفته ، وبمذكوره عن ذكره حتى يقول أحدهم في هذه الحال : سبحاني ، أو ما في هذه الجبة إلا الله .
ومعلوم أن ذات الله تبارك وتعالى ليست الذي في قلبه ، بل في قلبه مثاله العلمي ، ومعرفته ، ومحبته ، فغاب بذلك عن نفسه ، هذا وإن كان يقوله الغالط ، فيقول من ليس بغالط : الله في قلب فلان ، وفلان ما عنده إلا الله ، ومن أراد الله فليذهب إلى فلان ، وليس مرادهم أن [ ص: 398 ] ذات الله في قلبه ، بل مثاله العلمي ومعرفته وذكره ومحبته ، وأنه لا يعبد إلا الله ، ولا يرجو إلا إياه ، ولا يخاف إلا إياه ، ولا يعمل إلا لله ، ولا يأمر إلا بطاعته فيفنى بعبادته عن عبادة ما سواه ، وبطاعته عن طاعة ما سواه ، وبمحبته عن محبة ما سواه .
فما قيل في المسيح عليه السلام ، وأمثاله من هذا فهو حق ، لكن لا اختصاص للمسيح بهذا .
وإذا كان مثل هذا الكلام كثيرا موجودا في كلام الأنبياء وغيرهم ، بل هو المعروف في كلامهم ، ولا يوجد قط على أحد من الأنبياء أنه جعل ذات الله في قلب أحد من البشر - علم أن النصارى تركوا المحكم من كلام الأنبياء عليهم السلام ، وتمسكوا بالمتشابه كأمثالهم من الضلال ، فاشتبه عليهم المعلوم بالقلوب المذكور بالألسن بالموجود في نفسه ، فظنوا أن نفس المثال العلمي هو الموجود العيني ، كما يظن ذلك كثير من الغالطين ، وهؤلاء يقولون بالحلول تارة ، وبالاتحاد أخرى ، ولا يفرقون بين حلول الإيمان والمعرفة والمحبة والمثال العلمي في القلب ، وبين حلول الذات المعلومة المحبوبة .
ولهذا يعتقد كثير من هؤلاء أنهم يكلمون الله ، ويكلمهم ، ويقول أحدهم : أوقفني ، وقال لي ، وقلت له . وتكون مخاطبته ومناجاته مع [ ص: 399 ] هذا المثال العلمي بحسب ما عندهم من الاعتقاد في الله تعالى ، وكثير منهم يتمثل له الشيطان ويقول : أنا ربك ، فيخاطبه ويظنه ربه ، وإنما هو الشيطان .
ومنهم : من يرى عرشا عليه نور ، أو يرى ما يظنه الملائكة وهم شياطين ، وذلك شيطان .
وكثير من هؤلاء يظن أنه أفضل من الأنبياء ، وأنه يدخل إلى الله بلا إذن ، خلاف الأنبياء ، ويكون ذلك الإله الذي يعتقده هو الشيطان ، والذين لا يتمثل لهم الشيطان يخاطب أحدهم من في قلبه ، فتخاطبه تلك الصورة العلمية ، ويقدر أنها تخاطبه ، ويظن ذلك مخاطبة الحق له .
وهذا كالرجل يذكر بعض أصحابه فيمثله في قلبه ويخاطبه مخاطبة من يعاتبه أو يعتذر إليه ، ويقدر خطاب تلك الصورة ، ويقول : قلت لك كذا ، وقلت لي كذا .
ونفس الشخص لا يكلمه ولا يسمع كلامه ، وإنما هو المثال ، كما قد يصور صورة الإنسان ويخاطبها الإنسان ، ويقدر ذلك مخاطبة لصاحب الصورة .
والنصارى أدخل في هذا من غيرهم ، فإنهم يخاطبون الصور الممثلة في الكنائس كصورة مريم ، والمسيح والقديسين ، ويقولون : إنما [ ص: 400 ] نقصد خطاب أصحاب تلك الصور نستشفع بهم .
وهذا مما حرمه الله على ألسن جميع النبيين ، ولم يشرع لأحد أن يدعو الملائكة ، ولا الأنبياء ولا الصالحين الأموات ، فكيف بالصور الممثلة لهم ، كما قد بسط في موضع آخر .
والمقصود هنا أنه كثيرا ما يوجد في كلام الناس الأنبياء وغيرهم من ذكر ظهور الله عز وجل ، والمراد به ظهوره في قلوب عباده بالمعرفة والمحبة والذكر .
ولهذا لما كان يقصد بذكر اسمه ذكر المسمى صار يقول - من يقول : إن الاسم هو المسمى - : إن المراد المقصود من الاسم هو المسمى ، لا أن نفس اللفظ هو المسمى ، فإن هذا لا يقوله عاقل ، وتنزيه الاسم وتسبيحه تنزيه للمسمى وتسبيح له .
كما قال تعالى :
سبح اسم ربك الأعلى ، وقال : فسبح باسم ربك العظيم .
[ ص: 401 ] وقال : تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام .
وجاء في الحديث : " لا تقوم القيامة حتى لا يعبد لله اسم " ، أي لا يعبد الله باسم من أسمائه ، فإنه إذا قيل : دعوت الله وعبدته ، فإنما في اللفظ الاسم ، والمقصود هو المسمى .
وهذا الذي ذكرناه من تفسير ظهور اللاهوت في المسيح وغيره بأن المراد ظهور ما في القلوب من توحيد الله ومعرفته ومحبته وذكره ونوره وهداه وروحه - هو مما يفسر به ذلك كثير من علماء النصارى ، فإنهم يفسرون اتحاد اللاهوت بالناسوت بظهور اللاهوت فيه كظهور نقش الخاتم في الشمع والطين .
ومعلوم أن الحال في الشمع والطين هو مثال نقش الخاتم لا أن في الشمع والطين شيئا من الخاتم ، بل ظهر فيه نقش الخاتم .
وكذلك يظهر نور الله وروحه في الأنبياء والصالحين ، وهذا المعنى لا يختص به المسيح عليه السلام ، بل يشترك هو فيه وسائر الرسل ، بل وكل مؤمن له من هذا نصيب بحسب إيمانه .


