( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما )
قوله تعالى : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما )
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية النظم وجهان :
الأول : أنه تعالى لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك الستر غير لائق بالرحيم الكريم ، ذكر تعالى ما يجري مجرى العذر في ذلك فقال : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) يعني أنه تعالى لا يحب إظهار الفضائح والقبائح إلا في حق من عظم ضرره وكثر مكره وكيده ، فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : اذكروا الفاسق بما فيه كي تحذره الناس وهؤلاء المنافقون قد كان كثر مكرهم وكيدهم وظلمهم في حق المسلمين وعظم ضررهم ، فلهذا المعنى ذكر الله فضائحهم وكشف أسرارهم .
الثاني : أنه تعالى ذكر في هذه الآية المتقدمة أن هؤلاء المنافقين إذا تابوا وأخلصوا صاروا من المؤمنين ، فيحتمل أنه كان يتوب بعضهم ويخلص في توبته [ ص: 72 ] ثم لا يسلم بعد ذلك من التعيير والذم من بعض المسلمين بسبب ما صدر عنه في الماضي من النفاق ، فبين تعالى في هذه الآية أنه تعالى لا يحب هذه الطريقة ، ولا يرضى بالجهر بالسوء من القول إلا من ظلم نفسه وأقام على نفاقه فإنه لا يكره ذلك .
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : دلت الآية على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح ولا يخلقها ، وذلك لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته ، فلما قال : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ) علمنا أنه لا يريد ذلك ، وأيضا لو كان خالقا لأفعال العباد لكان مريدا لها ، ولو كان مريدا لها لكان قد أحب إيجاد الجهر بالسوء من القول ، وإنه خلاف الآية .
والجواب : المحبة عندنا عبارة عن إعطاء الثواب على الفعل ، وعلى هذا الوجه يصح أن يقال : إنه تعالى أراده ولكنه ما أحبه والله أعلم .
المسألة الثالثة : قال أهل العلم : إنه تعالى لا يحب الجهر بالسوء من القول ، ولا غير الجهر أيضا ، ولكنه تعالى إنما ذكر هذا الوصف لأن كيفيته الواقعة أوجبت ذلك كقوله : ( إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) [النساء : 94] والتبين واجب في الطعن والإقامة ، فكذا ههنا .
المسألة الرابعة : في قوله : ( إلا من ظلم ) قولان ، وذلك لأنه إما أن يكون استثناء منقطعا أو متصلا .
القول الأول : إنه استثناء متصل ، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان :
الأول : قال أبو عبيدة هذا من باب حذف المضاف على تقدير : إلا جهر من ظلم . ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
الثاني : قال الزجاج : المصدر ههنا أقيم مقام الفاعل ، والتقدير : لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم .
القول الثاني : إن هذا الاستثناء منقطع ، والمعنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ، لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته .
المسألة الخامسة : المظلوم ماذا يفعل ؟ فيه وجوه :
الأول : قال قتادة وابن عباس : لا يحب الله رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم فإن له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه .
الثاني : قال مجاهد : إلا أن يخبر بظلم ظالمه له .
الثالث : لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكتومة ، لأن ذلك يصير سببا لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الإنسان في الريبة ، لكن من ظلم فيجوز إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب ، وهذا قول الأصم .
الرابع : قال الحسن : إلا أن ينتصر من ظالمه . قيل : نزلت الآية في أبي بكر - رضي الله عنه - فإن رجلا شتمه فسكت مرارا ، ثم رد عليه فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر : شتمني وأنت جالس ، فلما رددت عليه قمت ، قال : إن ملكا كان يجيب عنك ، فلما رددت عليه ذهب ذلك الملك وجاء الشيطان ، فلم أجلس عند مجيء الشيطان ، فنزلت هذه الآية .
المسألة السادسة : قرأ جماعة من الكبار : الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير " إلا من ظلم " بفتح الظاء ، وفيه وجهان :
الأول : أن قوله : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ) كلام تام ، وقوله : ( إلا من ظلم ) كلام منقطع عما قبله ، والتقدير : لكن من ظلم فدعوه وخلوه ، وقال الفراء والزجاج : يعني لكن من ظلم نفسه فإنه يجهر بالسوء من القول ظلما واعتداء .
الثاني : أن يكون الاستثناء متصلا والتقدير : " إلا من [ ص: 73 ] ظلم " فإنه يجوز الجهر بالسوء من القول معه .
ثم قال : ( وكان الله سميعا عليما ) وهو تحذير من التعدي في الجهر المأذون فيه ، يعني فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف مستورا بسوء فإنه يصير عاصيا لله بذلك ، وهو تعالى سميع لما يقوله عليم بما يضمره .


