[ ص: 54 ] قوله تعالى: كلا ردع وزجر، أي: ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا . وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء . وكان أبو حاتم يقول: " كلا " ابتداء يتصل بما بعده على معنى " حقا " إن كتاب الفجار قال مقاتل: إن كتاب أعمالهم لفي سجين وفيها أربعة أقوال .
أحدها: أنها الأرض السابعة، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل . وروي عن مجاهد قال: " سجين " صخرة تحت الأرض السابعة، يجعل كتاب الفجار تحتها، وهذه علامة لخسارتهم، ودلالة على خساسة منزلتهم .
والثاني: أن المعنى: إن كتابهم لفي سفال، قاله الحسن .
والثالث: لفي خسار، قاله عكرمة .
والرابع: لفي حبس، فعيل من السجن، قاله أبو عبيدة .
قوله تعالى: وما أدراك ما سجين هذا تعظيم لأمرها . وقال الزجاج: أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك .
قوله تعالى: كتاب مرقوم أي: ذلك الكتاب الذي في سجين كتاب [ ص: 55 ] مرقوم، أي: مكتوب . قال ابن قتيبة: والرقم: الكتاب . قال أبو ذؤيب:
عرفت الديار كرقم الدوا ة يزبره الكاتب الحميري
وأنشده الزجاج: " يذبرها " بالذال المعجمة، وكسر الباء . قال الأصمعي: يقال: زبر: كتب، وذبر: قرأ . وروى أبو عمرو عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: الصواب: زبرت بالزاي- كتبت . وذبرت بالذال- أتقنت ما حفظت . قال: والبيت يزبرها، بالزاي والضم . وقال ابن قتيبة: يروى " يزبرها " و " يذبرها " وهو مثله، يقال: زبر الكتاب يزبره، ويزبره . وذبره يذبره، ويذبره . وقال قتادة: رقم له بشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر . وقيل: المعنى: إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به .
قوله تعالى: ويل يومئذ للمكذبين هذا منتظم بقوله تعالى: يوم يقوم الناس ، وما بينهما كلام معترض . وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله تعالى: بل ران على قلوبهم قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر: " بل ران " بفتح الراء مدغمة، وقرأ أبو بكر عن عاصم: " بل ران " مدغمة بكسر الراء . وقرأ حفص عن عاصم " بل " بإظهار اللام " ران " بفتح الراء . قال اللغويون: أي: غلب على قلوبهم، يقال: الخمرة ترين على عقل السكران . قال الزجاج: قرئت بإدغام اللام في الراء، لقرب ما بين الحرفين، وإظهار اللام جائز، لأنه من كلمة، والرأس من كلمة أخرى . ويقال: ران على قلبه الذنب يرين رينا: إذا [ ص: 56 ] غشي على قلبه، ويقال: غان يغين غينا، والغين كالغيم الرقيق، والرين كالصدإ يغشى على القلب . وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: الغين يقال: بالراء، وبالغين، ففي القرآن " كلا بل ران " وفي الحديث: " إنه ليغان على قلبي " وكذلك الراية تقال بالراء، وبالغين، والرميصاء تكتب " بالغين " ، وبالراء، لأن الرمص يكتب بهما . قال المفسرون: لما كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم . قال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب .
قوله تعالى: كلا أي: لا يصدقون . ثم استأنف إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون قال ابن عباس: إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته . وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه . وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضى . وقال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى [ ص: 57 ] في القيامة . ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن ربهم . ثم من بعد حجبهم عن الله يدخلون النار، فذلك قوله تعالى: ثم إنهم لصالو الجحيم .
قوله تعالى: ثم يقال أي: يقول لهم خزنة النار: هذا العذاب الذي كنتم به تكذبون كلا أي: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه . ثم أعلم أين محل كتاب الأبرار فقال تعالى: لفي عليين وفيها سبعة أقوال .
أحدها: أنها الجنة، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني: أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة، روي عن ابن عباس أيضا .
والثالث: أنها السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين، قاله كعب، وهو مذهب مجاهد، وابن زيد .
والرابع: أنها قائمة العرش اليمنى، قاله قتادة . وقال مقاتل: ساق العرش .
والخامس: أنه سدرة المنتهى، قاله الضحاك .
والسادس: أنه في علو وصعود إلى الله عز وجل، قاله الحسن . وقال الفراء: في ارتفاع بعد ارتفاع .
والسابع: أنه أعلى الأمكنة، قاله الزجاج .
قوله تعالى: وما أدراك ما عليون هذا تعظيم لشأنها .
قوله تعالى: كتاب مرقوم الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها .
[ ص: 58 ] قوله تعالى: يشهده المقربون أي: يحضر المقربون من الملائكة ذلك المكتوب، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين . وما بعد هذا قد سبق بيانه [الانفطار: 13] إلى قوله تعالى: ينظرون وفيه قولان .
أحدهما: إلى ما أعطاهم الله من الكرامة .
والثاني: إلى أعدائهم حين يعذبون .
قوله تعالى: تعرف في وجوههم نضرة النعيم وقرأ أبو جعفر، ويعقوب " تعرف " بضم التاء، وفتح الراء " نضرة " بالرفع . قال الفراء: بريق النعيم ونداه . قال المفسرون: إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم، لما ترى من الحسن والنور . وفي " الرحيق " ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه الخمر، قاله الجمهور . ثم اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقوال . أحدها: أجود الخمر، قاله الخليل بن أحمد . والثانية: الخالصة من الغش، قاله الأخفش . والثالث: الخمر البيضاء، قاله مقاتل . والرابع: الخمر العتيقة، حكاه ابن قتيبة .
والقول الثاني: أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك، قاله الحسن .
والثالث: أنه الشراب الذي لا غش فيه، قاله ابن قتيبة، والزجاج . وفي قوله تعالى: مختوم ثلاثة أقوال .
أحدها: ممزوج، قاله ابن مسعود .
والثاني: مختوم على إنائه، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد .
[ ص: 59 ] والثالث: له ختام، أي: عاقبة ريح، وتلك العاقبة هي قوله تعالى: ختامه مسك، أي: عاقبته . هذا قول أبي عبيدة .
ختامه مسك قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحمزة " ختامه " بكسر الخاء، وبفتح التاء، وبألف بعدهما، مرفوعة الميم . وقرأ الكسائي " خاتمه " بخاء مفتوحة، بعدها ألف، وبعدها تاء مفتوحة . وروى الشيزري " خاتمه " مثل ذلك، إلا أنه يكسر التاء . وقرأ أبي بن كعب، وعروة، وأبو العالية: " ختمه " بفتح الخاء والتاء و [بضم] الميم من غير ألف .
وللمفسرين في قوله تعالى: ختامه مسك أربعة أقوال .
أحدها: خلطه مسك، قاله ابن مسعود، ومجاهد .
والثاني: أن ختمه الذي يختم به الإناء مسك، [قاله ابن عباس .
والثالث: أن طعمه وريحه مسك، قاله علقمة .
والرابع: أن آخر طعمه مسك] قاله سعيد بن جبير، والفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين .
قوله تعالى: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون أي: فليجدوا في طلبه، وليحرصوا عليه بطاعة الله . والتنافس: كالتشاح على الشيء، والتنازع فيه .
قوله تعالى: ومزاجه من تسنيم فيه قولان .
[ ص: 60 ] أحدهما: أنه اسم عين في الجنة يشربها المقربون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمين .
والثاني: أن التسنيم الماء، قاله الضحاك . قال مقاتل: وإنما سمي تسنيما، لأنه يتسنم عليه من جنة عدن، فينصب عليهم انصبابا، فيشربون الخمر من ذلك الماء . قال ابن قتيبة: يقال: إن التسنيم أرفع شراب في الجنة . ويقال: إنه يمتزج بماء ينزل من تسنيم، أي: من علو . وأصل هذا من سنام البعير، ومن تسنيم القبور . وهذا أعجب إلي، لقول المسيب بن علس في وصف امرأة:
كأن بريقتها للمزا ج من ثلج تسنيم شيبت عقارا
أراد: كأن بريقتها عقارا شيبت للمزاج من ثلج تسنيم، يريد: جبلا . قال الزجاج: المعنى: ومزاجه من تسنيم عينا تأتيهم من تسنيم، أي: من علو يتسنم عليهم من الغرف . فـ " عينا " في هذا القول منصوبة، كما قال تعالى: أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما [البلد: 15] . ويجوز أن تكون " عينا " منصوبة بقوله: يسقون عينا، أي: من عين . وقد بينا معنى " يشرب بها " في [هل أتى: 6] .


