قال الشاعر:
داينت أروى والديون تقضى فماطلت بعضا وأدت بعضا
والمعنى: إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمى ، فاكتبوه ، فأمر الله تعالى بكتابة الدين ، وبالإشهاد ، حفظا منه للأموال ، وللناس من الظلم ، لأن من كانت عليه البينة ، قل تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه . وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في السلم خاصة . فإن قيل: ما الفائدة في قوله "بدين" و"تداينتم" يكفي عنه؟ فالجواب: أن تداينتم يقع على معنيين . أحدهما: المشاراة والمبايعة والإقراض . والثاني: المجازاة بالأفعال ، فالأول يقال فيه: الدين بفتح الدال ، والثاني: يقال منه: الدين بكسر الدال . قال تعالى: يسألون أيان يوم الدين [ الذاريات: 12 ] أي: يوم الجزاء .
وأنشدوا:
دناهم كما دانوا
[ ص: 337 ] فدل قوله "بدين" على المراد بقوله "تداينتم" ذكره ابن الأنباري . فأما العدل فهو الحق . قال قتادة: لا تدعن حقا ، ولا تزيدن باطلا .
قوله تعالى: (ولا يأب كاتب) أي: يمتنع أن يكتب كما علمه الله ، وفيه قولان . أحدهما: كما علمه الله الكتابة ، قاله سعيد بن جبير . وقال الشعبي: الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد . والثاني: كما أمره الله به الحق ، قاله الزجاج . قوله تعالى: وليملل الذي عليه الحق قال سعيد بن جبير : يعني المطلوب ، يقول: ليمل ما عليه من حق الطالب على الكاتب ، (ولا يبخس منه شيئا) أي: لا ينقص عند الإملاء . قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أمللت أمل ، وأمليت أملي لغتان ، فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال ، لأن الممل يطيل قوله على الكاتب ويكرره .
قوله تعالى: فإن كان الذي عليه الحق سفيها في المراد بالسفيه هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنه الجاهل بالأموال ، والجاهل بالإملاء . قاله مجاهد ، وابن جبير . والثاني: أنه الصبي والمرأة ، قاله الحسن . والثالث: أنه الصغير ، قاله الضحاك ، والسدي . والرابع: أنه المبذر ، قاله القاضي أبو يعلى . وفي المراد بالضعيف ثلاثة أقوال . أحدها: أنه العاجز والأخرس ، ومن به حمق ، قاله ابن عباس ، وابن جبير . والثاني: أنه الأحمق ، قاله مجاهد ، والسدي . والثالث: أنه الصغير قاله القاضي أبو يعلى .
قوله تعالى: أو لا يستطيع أن يمل هو قاله ابن عباس: لا يستطيع لعيه . وقال ابن جبير: لا يحسن أن يمل ما عليه ، وقال القاضي أبو يعلى: هو المجنون .
قوله تعالى: (فليملل وليه) في هاء الكناية قولان . أحدها: أنها تعود إلى الحق ، فتقديره: فليملل ولي الحق ، هذا قول ابن عباس ، وابن جبير ، والربيع بن أنس ، ومقاتل ، [ ص: 338 ] واختاره ابن قتيبة . والثاني: أنها تعود إلى الذي عليه الحق ، وهذا قول الضحاك ، وابن زيد ، واختاره الزجاج ، وعاب قول الأولين ، فقال: كيف يقبل قول المدعي؟! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد ، والقول قوله؟! وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضا . والعدل: الإنصاف . وقي قوله تعالى: (من رجالكم) قولان . أحدهما: أنه يعني الأحرار ، قاله مجاهد ، والثاني: أهل الإسلام ، وهذا اختيار الزجاج ، والقاضي أبي يعلى ، ويدل عليه أنه خاطب المؤمنين في أول الآية .
قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين) أراد: فإن لم يكن الشهيدان رجلين (فرجل وامرأتان) ولم يرد به: إن لم يوجد رجلان .
قوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) قال ابن عباس: من أهل الفضل والدين . قوله تعالى: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ذكر الزجاج ، أن الخليل ، وسيبويه ، وسائر النحويين الموثوق بعلمهم ، قالوا: معناه: استشهدوا امرأتين ، لأن تذكر إحداهما الأخرى . ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى . وقرأ حمزة "إن تضل" بكسر الألف . والضلال هاهنا: النسيان ، قاله ابن عباس والضحاك ، والسدي ، والربيع ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة . وأما قوله: "فتذكر" فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بالتخفيف مع نصب الراء ، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف ، وقرأ الباقون بالنصب ، وتشديد الكاف ، فمن شدد أراد الإدكار عند النسيان ، وفي قراءة من خفف قولان . أحدهما: أنها بمعنى المشددة أيضا ، وهذا قول الجمهور . قال الضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي: ومعنى القراءتين واحد . والثاني: أنها بمعنى: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر ، وهذا مذهب سفيان بن عيينة ، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو نحوه ، واختاره القاضي أبو يعلى ، وقد رده جماعة ، منهم ابن قتيبة . قال أبو علي: ليس مذهب ابن عيينة بالقوي ، لأنهن لو بلغن ما بلغن ، لم تجز شهادتهن إلا أن يكون معهن رجل ، ولأن الضلال هاهنا: النسيان ، فينبغي أن يقابل بما يعادله ، وهو التذكير .
[ ص: 339 ] قوله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا قال قتادة: كان الرجل يطوف في الحواء العظيم ، [فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة ] فلا يتبعه منهم أحد ، فنزلت هذه الآية . وإلى ماذا يكون هذا الدعاء؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها: إلى تحمل الشهادة ، وإثباتها في الكتاب ، قاله ابن عباس ، وعطية ، وقتادة ، والربيع . والثاني: إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن تقدمت شهادتهم بها ، قاله سعيد بن جبير ، وطاووس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والشعبي ، وأبو مجلز ، والضحاك ، وابن زيد . ورواه الميموني عن أحمد بن حنبل . والثالث: إلى تحملها وإلى أدائها ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، واختاره الزجاج ، قال القاضي أبو يعلى: إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره ، فأما إن كان قد تحملها جماعة ، لم تتعين عليه ، وكذلك في حال تحملها ، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد ، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه .
قوله تعالى: (ولا تسأموا) أي: لا تملوا وتضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله ، أي: إلى محل أجله (ذلكم أقسط عند الله) أي: أعدل ، (وأقوم للشهادة) لأن الكتاب يذكر الشهود جميع ما شهدوا عليه (وأدنى) أي: أقرب (ألا ترتابوا) أي: لا تشكوا (إلا أن تكون) الأموال (تجارة) أي: إلا أن تقع تجارة . وقرأ عاصم "تجارة" بالنصب على معنى: إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة ، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل ، فأباح ترك الكتاب فيها توسعة ، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول أو مشروب .
قوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه .
[ ص: 340 ] فصل
وهذه الآية تتضمن الأمر بإثبات الدين في كتاب ، وإثبات شهادة في البيع والدين . واختلف العلماء ، هل هذا أمر وجوب ، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب فعلى هذا هو محكم ، وذهبت طائفة إلى أن الكتاب والإشهاد واجبان ، روي عن ابن عمر ، وأبي موسى ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وعطاء ، والضحاك ، وأبي قلابة ، والحكم ، وابن زيد . ثم اختلف هؤلاء ، هل هذا الحكم باق ، أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته .
قوله تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من "يضار" وسكونها . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها: أن معناه لا يضار بأن يدعي وهو [ ص: 341 ] مشغول ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، والفراء ، ومقاتل . وقال الربيع: كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي ، فيقول: إني مشغول ، فيلزمه ، ويقول: إنك قد أمرت بالكتابة ، فيضاره ، ولا يدعه ، وهو يجد غيره ، وكذلك يفعل الشاهد ، فنزلت ولا يضار كاتب ولا شهيد . والثاني: أن معناه: النهي للكاتب أن يضار من يكتب له ، بأن يكتب غير ، ما يمل عليه وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه ، هذا قول الحسن ، وطاووس ، وقتادة ، وابن زيد ، واختاره ابن قتيبة ، والزجاج . واحتج الزجاج على صحته بقوله تعالى: وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم قال: ولا يسمى من دعا كاتبا ليكتب ، وهو مشغول ، أو شاهد; فاسقا ، إنما يسمى من حرف الكتاب ، أو كذب في الشهادة ، فاسقا . والثالث: أن معنى المضارة: امتناع الكاتب أن يكتب ، والشهادة أن يشهد ، وهذا قول عطاء في آخرين .
قوله تعالى: (وإن تفعلوا) يعني: المضارة .


